أثناء فترة الامتياز فى «قصر العينى» لمست عن قرب وعرفت قيمة التبرع بالدم وكيف أن نقطة دم تكتب بالفعل حياة جديدة، كان الموت قنبلة زمنية للمريض النازف، يقترب الموت ببطء يريد أن ينشب مخالبه الفتاكة وأنيابه القاسية ليقتنص روحه المنهكة حتى يأتى كيس الدم فيتحول الشحوب إلى حمرة وحيوية، ويبدأ النبض الخافت المتثاقل المنسحب يعود رويداً رويداً إلى صوته القوى وإيقاعه العفى، حينها كنا نشاهد تسلل الحياة «صوت وصورة»، نراقب الروح على الهواء مباشرة وهى تتلبس جسد صاحبها المسجى من جديد بعد أن كانت عازمة على الرحيل، تنتفخ الأوردة ويعود الوعى ويكاد يقفز القلب من قفصه الصدرى وكأنه يزغرد، كل ما يحدث أمامنا هو نتاج وهبة كيس دم من مواطن مجهول قرر أن يمنح نعمة الحياة لمريض لا يعرفه أشرف على الموت، واجهنا فى البداية ومنذ أن كنا طلبة نتجول فى أقسام كلية الطب شبح الأوهام المغلوطة والأساطير المنسوجة حول أخطار التبرع بالدم، لدرجة أننا كنا كثيراً نشاهد مشاجرات زوجية بين رجل يخاف أن يتبرع بالدم لزوجته أو العكس خوفاً من الموت أثناء التبرع!! كلام فارغ نتيجة الجهل المزمن استقر فى عقول الغلابة ممن زيف وعيهم بفتاوى الطب الشعبى الذى يتقنه ويعشقه الشعب المصرى، واجه المرحوم أ. د. هاشم فؤاد، الذى كان وقتها عميد الكلية، هذه المشكلة الرهيبة التى كانت تجعل بنك الدم خالى الوفاض من أى كيس دم ينعى من بناه نتيجة هذا الجهل والخوف والرعب من التبرع بالدم، فكر هذا الرجل العبقرى خارج الصندوق كعادته، وقرر أنه لن تجرى عملية جراحية فى قصر العينى إلا ولابد وإجبارياً أن يأتى قريب للمريض ليتبرع بالدم حتى ولو كان المريض غير محتاج أو جراحته بسيطة، فالتبرع هو لبنك الدم وللمرضى عموماً وليس للمريض الزوج أو ابن العم أو ابن الخال... إلخ، كسر هاشم فؤاد الأنانية وحطم الأفكار العفنة البالية التى كانت تعشش فى أمخاخ الناس وأجبرهم على التبرع، فامتلأ بنك الدم وصدّر للبنوك الأخرى فائض المخزون! واجه د. هاشم فؤاد فى البداية ضغوطاً كثيرة واتهمه الكثيرون بالديكتاتورية والخروج على القانون، وبأن ما يفعله سيضعه فى السجن نتيجة أنه مخالف لحقوق الإنسان، سألهم: وأين حقوق المريض الغلبان المسكين؟ من يموت نتيجة العجز والنقص فى أكياس الدم، هذا المتوفى دمه فى رقبة مين؟! هكذا صرخ هاشم فؤاد فى وجوههم وأفحمهم، لكن بعد خروجه من العمادة عاد كل شىء إلى سابق عهده، وتم ابتزاز العمداء من بعده فرضخوا للأفكار البالية وأوهام وأساطير الجهل والخرافة، لم يستطع أحد أن يكسر تابوهات هذه الأفكار البالية مثل د. هاشم فؤاد الذى لم يخش فى حق المريض لومة لائم، وقال: «مادام إنقاذ الغلبان هو هدفى مايهمنيش مخلوق»!!، ما معنى أن يموت مريض من نزيف بعد حادث سيارة أو جرح نافذ أو هيموفيليا أو عملية ولادة خطيرة... إلخ، أليست هذه حقوق إنسان؟! لابد أن نواجه أنفسنا فى المرآة ونرى قبح بعض سلوكياتنا ونفاق وازدواجية تصرفاتنا، لابد أن نواجه أنفسنا بالحقيقة المرة حتى ولو كانت جارحة، لقد انعدمت لدينا ثقافة العطاء والمنح، بلاش نخدع نفسنا بترديد الجملة الخالدة بأننا شعب متدين بطبعه، والتى تحولت إلى أسطوانة مشروخة، فماذا يعنى التدين إذا لم يعن الضمير والعطاء؟ أنا أعتبر المجتمع الغربى الذى نصفه بالكفر وننعته بالفسوق أكثر ضميراً وعطاء، وإلا فما تقييمك وتصنيفك لشباب هناك يحمل بطاقة تبرع بأعضائه كلها بعد الوفاة بلا قيد أو شرط؟!! ما تقييمك لمشهد عجوز ألمانى يعود للحياة بعد زرع قلب من شابة فرنسية تطابق نسيجها معه على الكمبيوتر؟! والمدهش أن والدها الحزين ووالدتها المكلومة يزوران المريض العجوز على بعد آلاف الكيلومترات، والذى يرقد قلب البنت خلف ضلوعه المنهكة الهشة، يزورانه ومعهما باقة ورد تهنئة على السلامة!!، أين هذه الثقافة عندنا؟ عندنا لابد من ابتزاز الدموع والصراخ ببرامج التسول وإعلانات «الشحاتة»، وزغزغة المشاعر الدينية فى رمضان، والتهديد بعذاب القبر حتى يُخرج المصرى من جيبه فلوس التبرع!! القليل ممن رحم ربى هم خارج تلك المنظومة الابتزازية التسولية، لكنهم ندرة، وحتى نغير تلك الثقافة بعد سنوات، أرجو أن تكون قليلة، لابد من أفكار خارج الصندوق مثل أفكار د. هاشم فؤاد لا نخضع فيها لابتزاز الفيس بوك ولا أوهام أننا أفضل شعب فى العالم وأنقى ضمير فى الكون... إلى آخر تلك الكلمات المستقرة فى الأناشيد والأغانى، نحن لدينا نواة مصرية جميلة غطاها غبار كثيف وصدأ ثقيل وتكلس خانق نتيجة ظروف وحكام ومتغيرات وجيران. هذه النواة الجميلة كانت قد اقتربت من تخوم الحداثة حتى جثم على أنفاسها وخنق ألقها وكتم نورها وضياءها كل هذه العوامل المجهضة لمشروع التنوير المصرى، الله يرحم أستاذنا هاشم فؤاد، ويرحم مصر من تخلف بعض أبنائها الذين يعتبرونها سكناً لا وطناً.